المشاحنات الزوجية لا نجاة منها: حقيقة نفسية واجتماعية
الزواج، رغم كونه المؤسسة الاجتماعية الأسمى التي تُبنى عليها الأسرة، لا يخلو من الصراعات والمشاحنات. هو رباط يجمع بين شخصين مختلفين في الطباع، الخلفيات، التوقعات وحتى الأحلام. وعلى الرغم من وجود مظلة الحب والاحترام والنية الطيبة، فإن اصطدام الرغبات اليومية، والتحديات الاقتصادية، وضغوط الحياة، كلها تجعل من المشاحنات الزوجية ظاهرة شبه حتمية، بل يمكن اعتبارها جانباً من الجوانب الطبيعية للتفاعل البشري داخل العلاقة الزوجية. الحديث عن “النجاة” من المشاحنات الزوجية قد يبدو طوباوياً، إذ أن استبعادها تماماً يتطلب علاقة خالية من التفاعل الحقيقي، وهو ما يتنافى مع جوهر الزواج ذاته.
أولاً: المشاحنات كمنتج طبيعي للاختلاف البشري
لا يمكن الحديث عن الزواج دون التطرق إلى التباين بين الأفراد، فحتى في أكثر العلاقات انسجاماً، يوجد قدر لا يُستهان به من الاختلافات التي تفرز بطبيعتها توتراً مؤقتاً. تتراوح هذه الخلافات بين الأمور البسيطة مثل ترتيب المنزل، أو طريقة تربية الأبناء، إلى قضايا أكثر عمقاً مثل المال، والدين، والعلاقات الأسرية الممتدة. لذلك، فإن الاعتقاد بأن هناك طريقة سحرية لتفادي الخلافات الزوجية تماماً لا يعكس الواقع النفسي والاجتماعي للعلاقات البشرية.
المشاحنات ليست علامة على فشل الزواج، بل قد تكون أحياناً مؤشراً على الحيوية والصدق في العلاقة. ففي العلاقات التي تُقمع فيها المشاعر أو يُكبت فيها الغضب، ينمو الاحتقان تدريجياً حتى ينفجر في شكل مشكلات أكثر خطورة مثل الخيانة أو الطلاق العاطفي. أما الخلافات الصغيرة والمتكررة، فقد تكون بمثابة صمامات أمان تعكس حاجة أحد الطرفين للتعبير أو إعادة التوازن.
ثانياً: الأبعاد النفسية للمشاحنات الزوجية
ترتبط المشاحنات الزوجية بصورة مباشرة ببنية النفس البشرية، وتحديداً بطريقة تعامل الفرد مع مشاعره وموقفه من الآخر. يلعب التكوين النفسي لكل طرف دوراً محورياً في إدارة النزاعات. فمثلاً، الشخص الذي نشأ في بيئة يسودها الكبت أو العنف، غالباً ما يتعامل مع الخلاف بطريقة انفعالية أو انسحابية، في حين أن الشخص الذي تربى في بيئة حوارية قد يفضل الحوار والنقاش.
يُضاف إلى ذلك أن التغيرات الهرمونية والضغوط النفسية الناتجة عن العمل أو المسؤوليات الأسرية قد تزيد من حدة الانفعالات، مما يجعل الأزواج أكثر عرضة للانفجار في لحظات الغضب. إن المشاحنات، في هذه السياقات، تصبح وسيلة غير واعية للتنفيس عن التوتر.
ثالثاً: المشاحنات بوصفها تحديات دورية في دورة الحياة الزوجية
تمر العلاقات الزوجية بمراحل مختلفة تتسم كل منها بطبيعة معينة من الصراعات. ففي السنوات الأولى من الزواج، تكثر المشاحنات بسبب محاولة كل طرف فرض رؤيته وإثبات وجوده، كما تُطرح أسئلة كثيرة عن التوافق القيمي والوجداني.
في مرحلة تربية الأطفال، تتبدل نوعية المشاحنات لتتركز حول الأساليب التربوية، توزيع الأدوار، وضغط الوقت والمسؤوليات. وفي مرحلة ما بعد الأربعين، قد تزداد حدة المشاحنات لأسباب تتعلق بإعادة تقييم الذات، والشعور بالفراغ العاطفي، أو الرغبة في الاستقلالية.
وبالتالي، لا يمكن فصل المشاحنات الزوجية عن السياق الزمني للعلاقة. هي تتغير شكلاً ومضموناً، لكنها لا تختفي. وإنما تتطلب من الطرفين وعياً متجدداً بالتغيرات التي تحدث داخلهم وحولهم.
رابعاً: الأثر الاجتماعي والثقافي للمشاحنات
يلعب المحيط الثقافي والاجتماعي دوراً كبيراً في تشكيل نظرة الأزواج للخلافات. ففي بعض الثقافات، يُنظر إلى الخلافات الزوجية كجزء طبيعي من الحياة الزوجية، وتتم معالجتها في إطار الأسرة الممتدة أو عن طريق التدخلات المجتمعية الحكيمة. بينما في مجتمعات أخرى، يُفرض نموذج مثالي للعلاقات الرومانسية، مما يجعل أي خلاف بسيط يُعتبر دليلاً على فشل العلاقة.
يُضاف إلى ذلك تأثير شبكات التواصل الاجتماعي التي تُضخم صورة الزواج المثالي، وتدفع الكثير من الأزواج إلى مقارنة علاقاتهم بما يُعرض على الشاشات، ما يؤدي إلى خيبة أمل تُترجم إلى مشاحنات متكررة.
خامساً: المشاحنات بين الانفجار والإصلاح
رغم أن المشاحنات قد تكون صحية ومطلوبة أحياناً، إلا أن تراكمها دون آلية فعالة للتفريغ والإصلاح يمكن أن يؤدي إلى تآكل العلاقة تدريجياً. بعض الأزواج لا يمتلكون أدوات التواصل الفعال، فيتحول الخلاف الصغير إلى أزمة وجودية. وتبدأ الحوارات باللوم والشتائم وتنتهي بالانسحاب أو التهديد بالانفصال.
المشكلة هنا ليست في وجود الخلاف، بل في طريقة التعامل معه. فالمشاحنات التي تُدار بعنف لفظي أو جسدي، أو التي تتكرر دون الوصول إلى حل، تخلق بيئة سامة تؤدي إلى فقدان الثقة والشعور بالأمان.
أما الأزواج الذين يمتلكون مهارات الحوار والاعتذار والتفاوض، فإنهم غالباً ما يخرجون من الخلافات بمزيد من الفهم والاقتراب. فالنزاع قد يكشف حاجات غير معلنة، ويُعيد ترتيب الأولويات العاطفية في العلاقة.
سادساً: الأدوار الجندرية والمشاحنات
تلعب الأدوار الجندرية دوراً أساسياً في طبيعة المشاحنات. ففي الكثير من المجتمعات، يُطلب من المرأة أن تكون الطرف الأكثر تضحية وصبراً، في حين يُتوقع من الرجل أن يكون صاحب القرار الأول والأخير. هذا التفاوت في التوقعات يولّد شعوراً بالظلم أو التهميش لدى أحد الطرفين، ما يؤدي إلى نزاعات متكررة.
كما أن بعض الرجال قد يشعرون بالتهديد من استقلالية الزوجة أو تفوقها المهني، مما يولّد توترات عاطفية تظهر في شكل انتقادات أو تحقير. وفي المقابل، قد تشعر المرأة بأنها تتحمل عبء التربية والمنزل وحدها، مما يُنتج حالة من الاستياء الصامت الذي ينفجر في شكل مشاحنات متقطعة.
سابعاً: المشاحنات في ظل ضغوط العصر
العصر الحديث، بما يحمله من تسارع مرهق، وتحديات اقتصادية مرعبة، وضع العلاقات الزوجية تحت ضغط مستمر. فالأعباء المادية، ومشاكل العمل، وقلق المستقبل، كلها تسلب الأزواج لحظات الهدوء التي كانت متاحة في الماضي. وفي غياب هذه اللحظات، تتراجع قدرة الطرفين على احتواء بعضهما البعض، ويصبح أي خلاف صغير مادة قابلة للاشتعال.
المشاحنات في هذا السياق تتحول من كونها حالة طارئة إلى نمط يومي يُطبع في تفاصيل الحياة. وينتقل هذا النمط إلى الأبناء، مما يُعيد إنتاج بيئة مشحونة تؤثر على نموهم العاطفي والاجتماعي.
ثامناً: آليات التكيف مع المشاحنات الزوجية
رغم استحالة تجنب المشاحنات الزوجية، يمكن التعايش معها بوعي يحوّلها من تهديد إلى فرصة. من أبرز آليات التكيف الناجحة:
-
الحوار الواعي: يعتمد على الاستماع الفعّال، واحترام مشاعر الطرف الآخر، وعدم التسرع في إصدار الأحكام.
-
التسامح: فهم أن الخطأ وارد، وأن تجاوز الزلات يقوّي العلاقة ولا يُضعفها.
-
التقدير اليومي: التعبير المستمر عن الامتنان والمحبة، مما يخلق أرضية صلبة تقلل من حدة الخلافات.
-
اللجوء إلى وسيط: في بعض الحالات، يكون وجود طرف ثالث ناضج وموضوعي عاملاً حاسماً في حل النزاعات.
-
الاهتمام بالصحة النفسية: بعض المشاحنات المتكررة تكون نتيجة اضطرابات مثل الاكتئاب أو القلق، ما يستدعي تدخلاً نفسياً متخصصاً.
تاسعاً: المشاحنات كأداة لإعادة التوازن
يُخطئ من يظن أن المشاحنات الزوجية تدمّر العلاقة، بل إن إدارتها بذكاء قد يجعلها أداة لإعادة التوازن العاطفي. في بعض الأحيان، يحتاج أحد الطرفين إلى الشعور بأنه مسموع، أو أن رأيه معتبر، أو أنه لا يُؤخذ كأمر مُسلّم به. والمشاحنة تصبح صرخة غير مباشرة للفت الانتباه إلى خلل معيّن.
هنا تظهر أهمية الحساسية العاطفية والقدرة على قراءة ما وراء الكلمات. لأن جوهر بعض المشاحنات ليس في “الحدث” بل في “المعنى” الذي يحمله داخل السياق العاطفي للعلاقة.
عاشراً: المشاحنات في العلاقات الطويلة الأمد
في العلاقات الزوجية التي تمتد لعقود، لا تختفي المشاحنات، لكنها تتحول إلى ما يُشبه الرقص المتكرر بنفس الإيقاع. كل طرف يعرف الآخر إلى درجة أنه يتوقع ردة فعله قبل أن يتحدث. وفي هذه المرحلة، تتحول المشاحنات إلى طقس اعتيادي، لكنه غير مهدِّد.
هذا الشكل من المشاحنات قد يكون دليلاً على استمرار وجود نبض عاطفي بين الطرفين، حتى وإن كان في صورة توتر. وقد يرى بعض علماء النفس أن غياب المشاحنات تماماً في العلاقات الطويلة قد يكون مؤشراً على الانفصال العاطفي وليس على الانسجام الحقيقي.
المصادر:
-
John Gottman, The Seven Principles for Making Marriage Work, Crown Publishing Group, 2015.
-
Harville Hendrix, Getting the Love You Want, St. Martin’s Press, 2007.
